اغتراب المثقّف العراقي، والعنف المقدّس ضدّه
د. هاشم عبود الموسوي
ما هي خسائر المثقّفين من العنف، خصوصاً العلماء والشعراء والروائيين والنقّاد والمؤرخين والصحفيين.. الخ (وكذلك ضمناً بعض الفنانين). غالباً ما تتم الإجابة بأن المثقّفين كالآخرين يُصابون بما يُصيب الناس، تسقط عليهم وعلى بيوتهم القنابل والكوارث مثلهم "ينزحون عن الديار" مثلهم بعدما تهدّم بيوتهم وتُقتل وتُزهق أحلامهم وتُدمّر حتى أشجارهم وزهورهم وذكرياتهم وأمنياتهم إلى آخر ما في هذا السيل المُقفّى من الكلمات:
سيكشف عن الأضرار التي لحقت بمنازلهم وأرزاقهم وسيُعوّضون ويقبضون بعدما "يعودون" و.. تنسى آلام الأجساد والوجدانات المدموغة من جديد (كل مرّة) ببصمة خجلٍ ولعنة أشقياء.
وللحديث عن هذا الموضوع أرى أنَّه من المفيد لو بدأنا بطرح تساؤلات بسيطة: ما هي طبيعة العلاقات السائدة بين مثقّفنا العراقي والمؤسسات والنظام السياسي، والوضع الاجتماعي الراهن.. وفي ظلّ احتلال بغيض.. وكيف تعمّقت الفجوة بين حُلمه والواقع؟ وما هي سُبل التغيير التي يُمكن من خلالها تجاوز حالة الاغتراب الذاتي والاجتماعي، بحيث يتمكّن المثقّف من أن يُحقّق تطلّعاته الشخصية والاجتماعية.
نحن الآن بحاجة إلى مجموعة متخصصين، أو مؤسسة تأخذ على عاتقها تحليل واقع المجتمع العراقي، وتحديد العوامل التي تجعل منه مُغرِّباً (بكسر الراء) بل ورافضاً للمُثقّف، بحيث تجعله لا يقوى على مواجهة الواقع الراهن. وهذا في رأينا هو من أهمّ مصادر الإخفاقات لديه.. بحيث بات المُثقّفون للأسف كأنّهم غُرباء في نظر بعض مؤسسات الدولة والأحزاب الدينية وبعض المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية منها.. إذ أنها تُسيطر على حياتهم، وتُحوّلهم إلى توابع أذلاء أشد من تبعيتهم إبان العهد الدكتاتوري.. حتى وجد بعض المثقّفين أنفسهم مُضطرين إلى التكيّف يائساً من عدم الفدرة على التصدّي لمواجهة ووضع الحلول للمشاكل والتحديات الاجتماعية والحياتية الراهنة.
وقد عبّر كثيرٌ من المُثقّفين وخاصةً في مجالي الأدب والفن عن ظاهرة الاغتراب بكل مستوياتها، وبأعمالهم الإبداعية التي قدّموها، مُحاولين التخلّص من أعباء الواقع المُعاش بكل تعاسته (احتلال بغيض وفساد اجتماعي...)، وكانت هناك مُجابهة وتمرّد فردي، وقد وقع الكثير منهم ضحايا عنف لثقافة دخيلة، سادت مجتمعنا في السنوات الأخيرة.. ومن خلال خلق التناقضات المُفتعلة التي فرضت واقعاً ثقافياً مشلولاً أمام الحاجات اليومية البسيطة التي أصبحت تلبيتها مُهمّة شاقة تستنزف طاقة المثقّفين وحوّلتهم إلى كائنات ضعيفة عاجزة عن المُجابهة.
وليس غائباً على أحد أن الدولة المحتلّة هي وحش استهلاكي هائل يتعامل مع فريسته بشراهة وشراسة ليس لها نظير في تأريخ الدول والإمبراطوريات، بل نظيرها الوحيد هو جوعه ونهمه.
إن أي نظرة بسيطة إلى مشاريع أمريكا العلمية والتنموية على المستوى السياسي والعسكري والفضائي والاجتماعي والتعليمي .. ألخ. تُرينا كم هي هائلة حاجة هذا المجتمع إلى استهلاك مصادر الطاقة والثروات المتنوعة إلى درجة تعجز عنها كل موارد الكرة الأرضية حتى ولو مُورس هذا الاستهلاك بشكلٍ جائر، فمهما كان الوحش شرساً فإن جوعه أشرس.
هكذا يجب النظر إلى هذه الظاهرة (أمريكا)، لا من خلال المشاعر والعواطف، ولكن من خلال تحليل هذا العملاق الاقتصادي والعسكري المتعاظم الجبروت، الذي يسحق أول ما يسحق رموزه المُدافعين عنه، وليس لهم أو له خيارٌ في هذا المصير المحتوم، فقد انطلق هذا العملاق بأقصى ما نتصوّر من تسارع منفلتاً من أي قدرةٍ على التحكّم بهذا التسارع، والويل لمن يقع بين براثن وأنياب هذا المارد كالعراق، وليرحم الله العراق.
إنَّ المُثقّف العراقي مُطالبٌ قبل غيره، بفهم واستيعاب هذه الظاهرة، من خلال موقعه في قلب الحدث، وأمام هذه المقارنة غير المتكافئة بين طرفٍ يملك كل مُقوّمات السيطرة والهيمنة، وبين طرفٍ يقف كائناً أعزلاً، مُجرّداً من كلِّ هذه المقوّمات، مطلوب منه أن يُبدي رأياً، ويكون هذا الرأي مسموعاً وقادراً على التأثير.. وقد لا يبدو أي بصيص أملٍ في إحداث أي تغيير.
- ما هي معاني الاغتراب ومراحل تطوّره وعناصره والنظريات التي يرتكز عليها؟
- إلى أي حدٍ تبرز هذه الخصائص في المجتمع العراقي الحالي وفي ثقافته؟
- ما هي مصادر الاغتراب وإلى أي حدٍ ترتبط بالبنى والقيم الاجتماعية السائدة؟
- ما هي نتائج الاغتراب على صعيد السلوك الفعلي؟
- ما أهمية وعي المُثقّف ونوعية اغترابه وبدائل التعامل معه؟
- هل يتّخذ سبل الهرب من مهمّة مواجهته، أم الخضوع للأمر الواقع بالاغتراب السياسي، حيث تزيد هيمنة الحاكم على المجتمع، وتهميش الجماهير الشعبية ولا تُشارك في وضع قراراتها المصيرية.
نتائج الاغتراب السلوكية:
إزاء عجز المُثقّف العراقي في علاقاته بالمجتمع والدولة، فإنَّه أمامه ثلاث خيارات سلوكية بديلة للتكامل مع هذه المعضلة، وتتمثّل هذه الخيارات في الآتي:
- الانسحاب أو اللامواجهة عن طريق: الهجرة أو العزلة والتقوقع في الداخل، أو التمترس بالطائفة أو اللجوء إلى الوهم والأحلام والنكوص إلى الماضي.
ما هي مظاهر الاغتراب السياسي والعائلي والديني؟
إنَّ الاغتراب في الحضارة الغربية، في الأدب والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، ومن حيث التعريف الإجرائي دلّت عليه الأبحاث بتحديدها خمسة عناصر تعرف هذا المفهوم، وهي: العجز، فقدان المعايير، غياب المعاني، اللاانتماء، والاغتراب الذاتي أو الشخصي، في حين يُشير بحث آخر إلى معايير أخرى هي: التركيز على الذات (الأنانية)، عدم الثقة، التشاؤم، القلق والاستياء.. ورغم جدّية وأهمية هذه الأبحاث التجريبية فإنَّه يُلاحظ عدم وجود قواسم مُشتركة أو متقاطعة، مما يُشير إلى انتفاء وجود تعريف مُحدّد للاغتراب، وذلك كغيره من المصطلحات المنتشرة في العلوم الإنسانية.
وقد أشار توماس هوبز وجون لوك إلى هذا المصطلح وظهوره، وذلك لأن الإنسان تخلّى عن حقّه الطبيعي بالعيش الحرّ من أجل انتقال السيادة منه إلى المجتمع السياسي أو الدولة.
مصادر الاغتراب وتنويعاته في وضعنا الجديد:
إنَّ أهمّ مصادر الاغتراب لدى المثقّفين العراقيين أو العجز في حياتنا تتمثّل في: التفتّت الاجتماعي والتجزئة العرقية والطائفية بداية من الأسرة وحتى العلاقات بين مكوّنات المجتمع، وكذلك ظاهرة التبعية التي تتجلّى في فقدان الوطن فيه سيطرته على موارده ومصيره، وسيطرة قيم الاستهلاك وترسيخ ظاهرة البنية الهرمية، وانتشار الفقر وازدياد التفاوت الاقتصادي بين شرائح المجتمع.. والعنصر الثالث يكمن في سلطوية المكونات السياسية الحاكمة في المجتمع على المجتمع وفي استعمار التراث لثقافة المجتمع المعاصرة، وهذا ما يقود إلى تداعي الثقافة المعاصرة وتهميشها..
التحوّل الثوري في تجاوز الاغتراب:
إنَّ التحوّل من حالة الاغتراب في مجتمعنا العراقي ومستوياته المتعددة الفردي منها والجماعي، الكلي والجزئي، وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية تتطلب حركة ثورية شاملة تبدأ بالوعي الشعبي بأهمية التغيير وأن تنال المؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية الاستقلالية الضرورية للتعبير عن نفسها، وتجديد القيم التي ينشأ عليها الإنسان أولاً منذ طفولته وترسيخ قيم الإرادة الحرة وحق الاختيار وتحمّل الفرد لمسؤولياته وإحداث ثورة في التعليم الجامعي بإحداث موازنة خلاقة بين التعليم والبحث وخدمة المجتمع وبين العلوم الطبيعية والاجتماعية والفنون والاستفادة من الثورة المعلوماتية وتنشيط دور المرأة في الحياة العامة وإطلاق حرية الفكر النقدي ومناقشة مشكلة عزلة المثقّف عن الشعب.
إن تحقيق الأفكار السابقة رهينٌ بأن يحكم الشعب وليس الدولة أو الحاكم، فالتغيير الثوري بهذا المفهوم يمكّنه من تجاوز التخلّف والتجزئة الطائفية القومية والاغتراب والتبعية وسلطوية الأحزاب السياسية وتهميش دور الفرد وعزله.