الدادائية 2من2: زيوريخ - ولادة الدادائية
بقلم: ترجمة: إسماعيل كرك
في عام 1916 عُدَّت سويسرا جزيرة السلام وسط المعارك الدامية إبان الحرب العالمية الأولى، وقد وجد فيها عدد كبير من الفنانين الشباب القادمين من المحيط الهادي أو الثوار الفارين من الحرب ملاذاً آمناً. واتخذ منها لينين حتى نيسان 1917 قاعدة عمل للإعداد للثورة البلشفية، فقد أقام في البناء المجاور مباشرة لحانة فولتير.
في عام 1915 وصل كل من هيجو بول (1886-1927) وعشيقته إيمي هيننج إلى زيوريخ، إذ كان هيجو بول يدرس الفلسفة والأدب الألماني في ميونيخ، ويعمل جنباً إلى جنب في (حجرة المسرح) مع المسرحي فرانك ويديكايند.
في شباط 1916 أسس هيجو بول حانة فولتير في زيورخ، وكان من بين زملائه الأكثر أهمية في هذه (المؤسسة)، الذين كانوا مهاجرين أيضاً، كلٌّ من تريستان تزارا وهانز ريشتر ومارسيل جانكو وهانز آرب. وبعد فترة قصيرة، رحب هيجو بول بريتشارد هولسينبيك، الذي انضم إلى المجموعة بحكم صداقتهما التي تكونت في برلين.
كانت أسباب لجوئهم إلى سويسرا متشابهة، ووصفها هولسينبيك بهذه العبارات العنيفة: (لا يستطيع أي منا أن يفهم الشجاعة التي تقتضي أن يموت أي شخص من أجل فكرة الأمة، والتي في أفضل حالاتها تصب في مصلحة مجموعة من متعاملي الفراء أو تجاره، وفي أسوأ حالاتها تصب في مصلحة مجموعة من السيكوباتيين الألمان، دعاة نظرية أرض الأسلاف، الذين يحملون مؤلفات غوته في حقائبهم العسكرية، ويطعنون البطون الفرنسية والروسية بحرابهم).
لم تكن مصادفة أن لا يكون الأدباء والفنانون الشباب، الذين أسسوا الدادائية في زيوريخ 1916 من أصل سويسري، لكن الشيء الذي جمعهم في سويسرا هو كراهيتهم للحرب وخوفهم من أن يُجنَّدوا إلزامياً للخدمة على الجبهة.
لم يقع الدادائيون بفخ التمجيد الساذج للحرب بطريقة إقامة تجمعات شبابية أوربية تتحدث عن بطولات الحرب، مع أن فرانز مارك رأى أن الحرب هي الطريقة الأمثل لتغيير المجتمع بقوله: (ذلك الإسطبل القذر، أوربا العجوز لا يمكن تنظيفها بأية طريقة أخرى). وقد كتب إلى صديقه فاسيلي كاندنسكي في 26 أيلول عام 1914:(هل هناك أي فرد يتمنى أن لا تندلع هذه الحرب؟)، وقد انتقد هيجو بول مباشرة هذا التحمس الأعمى عندما كتب في مفكرته في تشرين الثاني 1914: (ما الذي احترق الآن؟ هل هي الآلات أم الشيطان نفسه؟ إن المثاليين مجرد أوراق تين). ثم هرب إلى سويسرا بعد ستة أشهر. وعندما افتتحت حانة فولتير في شباط 1916 قُتل في الحرب كل من الفنان الإيطالي أمبيرتو بوشيوني، والفنان الألماني أوغست ميك، والشاعر الألماني الانطباعي أوغست سترام، إذ غرقت الجبهة الغربية في صراع دون رحمة. وبعد وقت قصير، وفي الرابع من آذار 1916، قُتل فرانز مارك في معركة فيردن، التي قضت على حياة أكثر من 700 ألف جندي فرنسي وألماني.
رد الدادائيون باشمئزاز شديد على وحشية الحرب وعلى القتل المجهول الآلية، والتبرير المخزي المقدم من كلا الجانبين المتحاربين لشرعنة سياسة الحرب. واتهموا شعوب الأمم المتحاربة لمواقفهم القومية المختلفة، وبذلك صاغ الدادائيون موقفهم المنسجم مع قناعاتهم.
(أرادت الدادا هدم خدع التفسير واكتشاف نظام لاعقلاني)، وبهذه الطريقة حدد هانز آرب الهدف الذي أراد الدادائيون تحقيقه، ومع ذلك استخدم الدادائيون طرقاً مختلفةً كثيرةً، إذ قام دادائيو برلين بالمشاركة في النقاش السياسي محاولين لفت أنظار الناس إليهم، فيما اعتمد دادائيو زيوريخ على السخرية واللاعقلانية وعلى عامل الصدمة في أعمالهم الأدبية الاستفزازية.
كان لدى هيجو بول نفسه ذكريات مثيرة عن تأسيس حانة فولتير (ذهبتُ إلى السيد أفرام صاحب الـ(مييري)، وقلت له: سيد أفرام هل من الممكن أن أستحوذ على صالتك؟ ثم ذهبتُ إلى عدد من أصدقائي وقلت لهم: هل لكم أن تعيروني رسماً أو ملصقاً؟ أريد أن أفتتح الحانة بإقامة معرض. بعد ذلك ذهبتُ إلى أصدقائي الصحفيين في زيوريخ، وطلبت منهم كتابة بعض الملاحظات، وقلت: إنني أخطط لأن تكون هذه الحانة عالمية. إننا نخطط لفعل بعض الأشياء الرائعة. أخذتُ اللوحات والملصقات، وفي الخامس من شباط صار لدينا حانة).
في الصالة رقم (1) كانت هناك غرفة تتسع لمنصة وخمسين ضيفاً، بينما زُيِّنت الجدران بأعمال ماكس أوبينهيمير وهانز آرب وأقنعة مارسيل جانكو. في كل مساء كان هيجو بول وأصدقاؤه يعتلون المنصة، ويقدمون برامج متنوعة تتضمن أغاني وقراءات وموسيقا ورقصات. كان الافتتاح مترافقاً بمقاطع قصيرة كتبها هيجو بول بنفسه ونصوص طويلة لفرانك ويديكايند وألفرد جاري وغييوم أبولونير، ومقولات للفيلسوف التنويري الفرنسي فولتير، الذي سميت الحانة باسمه. ترافقت الموسيقا بمقطوعات للموسيقيَّيْن المشهورَيْن ديبوسي ورافل، بينما كان الراقصون ينتمون إلى مدرسة (ليبان) للرقص. وكان مخرج الرقصات أستاذ الرقص رودولف فون لابان، الذي هرب من ميونيخ. الراقصات كنَّ ماري ويغمان وصوفي تايوبير وصديقة هيجو بول إيمي هينينجز، وأصبحت الأقنعة والأزياء للرقصات الغريبة، فيما بعد، من تصميم مارسيل جانكو وهانز آرب.
بالنسبة إلى زيوريخ فقد كان البرنامج جديداً خلال الأشهر الأولى رغم تناغمه مع المألوف، فقد نظـَّم هيجو بول في برلين أمسيات مشابهة بالاشتراك مع ريتشارد هولسينبيك، ويمكن القول إن النشاطات الأولى التي قاما بها كانت دادائية بمعنى الكلمة، ولم تكن القصائد والنصوص المكتوبة بعيدة عن الرثاء المألوف وقوة اللغة الانطباعية.
في عام 1916 قرأ تريستان تزارا بياناً يشرح فيه كيفية كتابة القصيدة الدادائية: (كي تصنع قصيدة دادائية، خذ جريدة، وأحضر مقصاً، وانتق من الجريدة مقالة حسب الطول الذي تريده لقصيدتك. قطـِّع المقالة. قطـِّع كلمات المقالة بعناية، وضعها في كيس. حرِّك بهدوء. أخرج بعد ذلك كل قصاصة بعد الأخرى، وانقل بجدية، وستشبهك القصيدة). على أية حال، فإن المثال الذي طرحه تزارا نتيجة لهذه العملية لا يمكن أن يتحقق بطريقة عشوائية. إنه يستهل القصيدة بالكلمات التالية: (الكلاب التي تعبر الهواء في ألماسة تشبه الأفكار... أغشية الدماغ تجعلنا نعرف ساعة الاستيقاظ...)، والشيء الذي جعل تعليماته في كتابة القصيدة الدادائية في غاية المتعة هو الطريقة التي شرح بها كتابة القصيدة الدادائية، فأثرت على الحركات الفنية خلال السنوات العشر التي تلت بيانه.
لم يبدع الدادائيون أشكالاً جمالية جديدة بإعادة تشكيل المادة الفنية عن طريق تقنيات الكولاج ومنتجة الصورة، لكن فناني القرن العشرين البصريين استعانوا أكثر من مرة بتقنيات مشابهة في إنتاج الصورة.
في زيوريخ بدأت بوادر نهاية الحركة الدادائية بالظهور، بينما كان الدادائيون يشاركون في أمسية الدادا الأولى في 14 تموز 1916. هذا الحدث لم يكن في حانة فولتير، وإنما في دار بلدية (زور واج). بعد أسبوعين فقط غادر هيجو بول المدينة، وانسحب بشكل مؤقت إلى (تيسينو)، وكتب في مفكرته بخصوص ما حدث بتاريخ 14 تموز: (إن البيان الذي تلوته في أمسية الدادا الأولى كان بصراحة يخفي رفضي لأصدقائي، وهذا ما فهموه أيضاً. هل رأيت في حياتك أن البيان الأول لأية فكرة جديدة يناقض هذه الفكرة وبحضور معتنقيها؟ نعم، لقد كانت كذلك. عندما تكون الأمور مرهقة، فإنني لن أستطيع الاستمرار معهم).
على أية حال، فقد استمر دادائيو زيوريخ في نشاطاتهم بعزيمة لا تنثني تحت قيادة كل من ريتشارد هولسينبيك وتريستان تزارا.
ورغم ذلك، ولو على نحو متأخر، فقد كان هيجو بول مدعواً مرة أخرى إلى معرض الدادا الذي أقيم في آذار 1917، وكان على الدادائيين أن يسلموا بأن الفنون البصرية بالنتيجة يجب أن تضفي أهمية أكبر على نشاطات الحركة. لقد كانت الإدارة المبرمجة للمعرض الافتتاحي واضحة للعيان ليكون وثيق الصلة بالجذور الأدبية الدادائية، ففي المعرض كانت أعمال الفنانين الانطباعيين التي شاركت في الوقت نفسه في معرض (دير شتورم) مترافقة بأمسية أدبية وموسيقية أحياها كل من الموسيقي والأديب النمسوي ألبان بيرغ، والرسام الروسي فاسيلي كاندنسكي، والموسيقي النمسوي أرنولد شونبيرغ، والشاعر والروائي الألماني بول شيربارت. ورغم مشاركة هانز آرب ومارسيل جانكو في الحركة الدادائية في زيوريخ، فإن مزاج الأدباء الدادائيين لم يكن فنياً، فقد كانوا يتقبلون بعض الأعمال الفنية البصرية في حال أثبت فنانوها بما لا يقبل الشك أنهم ضد الجمال، وأنهم متحررون من كل أشكال الفن المستندة إلى ما قبلها، إذ لم يقبلوا بانتساب أي فنان من زملائهم الدادائيين إذا لم يتخل عن الأعمال الفنية التقليدية المرسومة بالزيت أو على القماش، وإذا قام أي من الفنانين الدادائيين باستخدام (موتيف) مألوف مستقى من تاريخ الفن، وشارك في معارضهم الفنية، فإنهم سيظهرونه على نحو غير محترم، ويلونونه بألوان خافتة بقصد تشويهه.
لم ينته عام 1917 حتى انسحب هيجو بول مرة أخرى إلى تيسينو، وغادر هانز آرب زيوريخ عام 1919، ليذهب أولاً إلى كولونيا في ألمانيا، حيث التقى هناك للمرة الثانية مع ماكس أرنست، وأسسا معاً بالاشتراك مع يوهان تيودور بارغيلد من مجموعة دادائيي كولونيا، وكان ريتشارد هولسينبيك عائداً تواً إلى ألمانيا في كانون الثاني عام 1917 برفقة زملائه الألمان في برلين للتجديد في فكر الدادائية. وبسبب مغادرة أصدقائه للحركة، فقد أصبح الشاعر الروماني تريستان تزارا الناطق الرسمي الوحيد باسم الحركة في زيوريخ، وبعد عامين قام تزارا بتنظيم أمسيات وطباعة مجلة (دير زيلتويغ)، وأضحى المؤلف الشاب والتر سيرنر أكثر زملائه أهمية بالنسبة إليه في ذلك الوقت.
في عام 1920 وصلت الحركة الدادائية إلى ذروة انتصاراتها العالمية، وتمشت في شوارع برلين وباريس ونيويورك وفي مواقع عالمية ربما أقل شهرة مثل هانوفر وكولونيا.
http://www.an-nour.com/index.php?option=com_content&task=view&id=9535&Itemid=1