عندما يباع الأطفال في أسواق العراق!!
رشيد شاهين
نشرت بعض الصحف السويدية الأكثر شعبية وانتشارا في ذلك البلد، قبل حوالي أسبوعين، ما قالت انه تحقيقا قامت به صحفية سويدية هي تيريس كرستينسون وزميل لها هو توربيورن اندرسون. وقد أثار التقرير الذي كان من الواضح انه يستند إلى مصداقية عالية، ذلك أنه تم تصويره وتوثيقه من وسط العاصمة العراقية بغداد، ضجة ربما غير مسبوقة فيما يتعلق بالعراق. وقالت الأنباء انه تمت ترجمة التحقيق إلى عدد من اللغات العالمية زادت عن 12 لغة.
الخبر الذي نشره موقع أخبار العرب في 24 تشرين الثاني أكتوبر، أوضح ان التحقيق الذي بثه التلفزيون السويدي ان الصحفية وزميلها تخفيا في سيارة قديمة وتابعا بالصوت والصورة السوق الذي تم وصفه بالكبير والذي يجري فيه بيع الأطفال العراقيين الرضع والمراهقين، وأشار الصحفي اندرسون في التحقيق ان فتاة عراقية لم يزد عمرها عن أربعة أعوام تباع بمبلغ لا يزيد عن 400 دولار، وان هذا المبلغ بحسب الصحفي لا يساوي قيمة الزهور التي يضعها الرئيس العراقي جلال الطلباني في مكتبه.
في الواقع ان هذا ليس هو التقرير الأول الذي يتحدث عن بيع الأطفال في العراق بشكل خاص، هذه الظاهرة التي لم تكن أبدا موجودة في عراق ما قبل الاحتلال، فقد تحدثت تقارير عديدة عن هذا الموضوع ومنذ سنوات، حيث ارتفعت الأصوات في حينها محذرة من تفاقم الظاهرة، خاصة في ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية سيئة جاءت مع مجيء قوات الاحتلال الاميريكي، وقد حاول كل من استفاد ولا زال من وجود قوات الاحتلال الاميريكي في العراق ان يشكك في تلك التقارير التي كانت على الأغلب تفتقر إلى التوثيق والاعتماد على الصوت والصورة كما حدث في تقرير الصحفيين كريستينسون واندرسون، أو كونها اعتمدت على أرقام "صماء" بدون أي حجة كما يقول الذين ينفون حدوث مثل هذه الظاهرة.
موضوع بيع أطفال العراق ليس هو الظاهرة الأولى التي نتجت عن احتلال العراق، ففيما يتعلق بهذه الفئة من العراقيين، كانت هناك فضيحة أخرى تمت إثارتها قبل ما يقرب السنتين، وكانت تتعلق بإرسال أطفال العراق من مرضى القلب إلى إسرائيل من اجل العلاج، وكأن العالم كله ضاق على هؤلاء فلم يجدوا إلا مشافي الدولة العنصرية من اجل العلاج والتخلص من أمراضهم، وقد نفى من نفى واستنكر من استنكر إشاعة أو نشر مثل ذاك الخبر تحت حجج وذرائع واهية تم تكرارها على مدار سنوات الاحتلال، في محاولة منهم للتنصل من مسؤولياتهم في وصول الأوضاع في بلاد الرافدين إلى هذا الدرك، وهي نفس الأسباب التي من خلالها يحاولون تحميل النظام السابق كل ما جرى ولا زال للعراق.
وفيما يتعلق بالأطفال أيضا، فقد أتيح لي قبل ما يزيد على السنتين ان أشاهد على شاشة إحدى الفضائيات العراقية تحقيقا حول دارا للأيتام قيل إنها في بغداد، حيث كان يمكن مشاهدة كيف تم ربط هؤلاء الأطفال بالأسرة وكانت حالتهم الصحية تبعث على الشفقة، لا بل كان البعض من هؤلاء الأطفال ليس سوى هياكل عظمية، وكانت الصور لا تختلف عن الصور التي ألفها العالم فيما يتعلق بأطفال المجاعات في دول إفريقيا الفقيرة، وقد أشار التقرير إلى ان مسؤولي تلك الدار كانوا يقومون بسرقة المواد الغذائية والوجبات التي من المفترض تقديمها إلى هؤلاء الأيتام، ويمنعون عنهم التدفئة والتبريد والاغتسال وكل ما يمكن ان يسهل أمور حياتهم.
هذا الحديث عن الأطفال هو ليس سوى جزء يسير من الأوضاع التي سادت بشكل غير مسبوق في العراق بعد ان قامت القوات الاميريكة باحتلال هذا البلد، وسلمته إلى قادة قدم في اغلبهم على ظهور الدبابات الاميركية وسواها، وقالت إنهم سوف يقومون بقيادة التغيير نحو الأفضل في ارض الرافدين وان العراق ذاهب إلى ديمقراطية مفقودة، وإنهم سيحولون هذا البلد إلى النموذج الأفضل في المنطقة من حيث الحريات والتعددية وحقوق الإنسان.
هذا الحديث عن الأطفال لا يعني أبدا ان باقي الفئات في المجتمع العراقي هي أفضل حالا، حيث تشير كل الدلائل إلى ان العراق أصبح في كثير من المجالات هو في راس القائمة من حيث السوء، حيث ازدادت الرذيلة والدعارة، وازدادت حالات الفقر وسوء التغذية وانتشرت ظاهرة التسول بشكل مريع، كما ازدادت حالات الاغتصاب والسرقة والجريمة بكل أشكالها بالإضافة إلى انتشار المخدرات في بلد كان من البلدان التي لا وجود لهذه الآفة فيه قبل الغزو.
الحديث عن كل المساوئ التي استجلبها الاحتلال لا تنتهي عند هذا الحد، حيث تشير كل الدراسات والتقارير إلى ان العراق أصبح من أكثر الدول فسادا في العالم، بالإضافة إلى تنامي ظواهر كثيرة لم يعرفها أهل العراق من قبل، مثل انتشار ألامية في بلد كان عمليا قد قضى على هذا الموضوع بشهادة الأمم المتحدة منذ بداية الثمانينات.
لا يمكن لنا إلا ان نتفهم ان يكون المعارض لهذا النظام أو ذاك معارضا لا بل ومعارضا شرسا، لكن في الشأن العراقي فان ما حدث هو ان هذه المجاميع التي تدعي انها كانت معارضة لنظام الراحل صدام حسين، وبعد ان سيطرت بمساعدة الأجنبي على الحكم في العراق، لم تقدم لهذا البلد الذي تدعي الانتماء إليه إلا الخراب والدمار، وهي لم تقدم سوى الموت لأبناء الشعب العراقي الذي تقول انها أتت لإنقاذه من براثن "الديكتاتور ونظام الحكم البائد" وان همها الوحيد عندما كانت "منفية" أو "مطاردة" في أصقاع الدنيا، لم يكن سوى تخليص الشعب من كل ما الم به من " كوارث" أو مظالم" لحقت به.
ماذا فعلت هذه الفئة عندما استطاعت ان تحكم البلد سوى انها مارست كل الموبقات، وبطريقة اكتر سوءا ودموية من أي نظام حكم العراق، فهاهي تلاحق كل القوى المعارضة بطريقة لم يمارسها النظام السابق ولا من سبقه، وهي ومنذ تسلمت الحكم في المنطقة الخضراء قتلت أو ساعدت في قتل وتشريد وإعاقة ملايين العراقيين، وأي نظرة إلى عدد العراقيين الذين قتلوا بعد قدوم هؤلاء تدلل على ان عدد من قتل من أبناء العراق خلال سبع سنوات من الاحتلال كان أضعاف مضاعفة لمن تم قتلهم خلال قترة زمنية طالت على مدى 35 سنة من حكم البعث.
وبالعودة إلى قضية بيع أطفال العراق بهذا الشكل المهين واللاانساني الذي إنما يتم في عز الظهيرة، وتحت سمع وبصر القائمين على المنطقة الخضراء وأسيادهم من أمريكيين وغيرهم، ممن يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو إنما يحدث كنتيجة طبيعية لغياب سيادة القانون وتغول عصابات تدعي انها ليس سوى كتل أو أحزاب سياسية، وهذه القضية ما كان لها ان تستشري لولا انها تتم بتيسير وتسهيل من جهات متنفذة ومسؤولة ومستفيدة، لان من غير الممكن ان تتم عمليات بيع الأطفال وبهذا الشكل العلني لولا وجود جهات متنفذة تساعد على ذلك، لا بل وتشجع على القيام به.
في ظل تنامي هذه الظاهرة ووصولها إلى هذا الشكل من العلنية الفجة، فان المطلوب من جميع المنظمات المعنية بحقوق الإنسان والأطفال، وعلى الأخص منظمة اليونيسيف، التي لم تنف وجود مثل هذه الظاهرة، بالإضافة إلى أصحاب الضمائر الحية والكتاب وكل الجهات التي يمكن ان يكون لها تأثير في منع هذه الظاهرة، التحرك والمطالبة بمحاسبة المتورطين من اجل وضع حد لهذا العمل الذي لا يمكن ومن غير المقبول السكوت عنه. حيث لا يكفي ان تفتح السويد أبوابها لأطفال العراق الذين يتعرضون لسوء المعاملة بعد نشر التقرير، عدا عما في ذلك من مهانة لأمة العربان وقبل ذلك لنشامى العراق، لان السؤال هو لماذا السويد، وإذا كان هذا هو الحل الوحيد، لماذا لا تكون دول العربان هي الملاذ الآمن لهؤلاء.