نداء أخير من البصرة : الشاعر كاظم الحجاج يعتكف حتى الموت
سبت, 2011-08-13 11:36 | محرر الأخبار
لم يتخلص المثقفون العراقيون، طوال سنوات، من تهمة التخلف عن اليومي المعيش. وفي ظروف مشتعلة بالازمات، تعج بالاسئلة، التزم عديد منهم جانب الحياد، وسكنوا في خانة الأغتراب. فترسخت الفجوة بين ما تسمى بالنخبة وبين الجمهور الباحث عن اجابات من العيار الثقيل.
لم تنضج لدى اغلبية ساحقة في العراق رؤى واضحة حول فكرة الاحتجاج، حتى ان مفاهيم التغيير لا تحظى بجاذبية لدى الشارع. لكن لا يمكن انكار وجود محاولات عراقية لاحداث شيء يكسر الجمود.
فكرة البو عزيزي في تونس، ورغم تصوفها المفرط، أوقدت الحياة في ضمائر الملايين وثبتت التهمة بالمثقفين التونسيين بانهم متراجعون كثيراً عما يجري في بلادهم؛ لم يكن البائع المتجول من النخبة، لكنه تحول الى أيقونة بامكانها ان تصير مروية تونسية كبرى.
في العراق، وبذات التصوف، يسجل شاعر عراقي معروف تحولاً في طبيعة معالجة المثقف للشأن اليومي في هذه البلاد: كاظم الحجاج يعتكف بمنزله في البصرة حتى الموت، احتجاجاً على تردي خدمة الكهرباء.
بعض المثقفين العراقيين تفاعلوا سريعاً مع الحدث، وربما ينطوي ذلك على «فرح» بخلاص جلدهم من تهمة الصمت على ما يجري. جسامة التدهور في الحياة العراقية تؤرقهم على أساس ان كثيراً منهم يواجه صعوبة بالغة في الاحتجاج، وتختلف الاسباب ما بين بنيوية سياسية، وأخرى تعود الى اعتياد العراقيين على النأي بالنفس عما هو سياسي «مخيف».
منذ الأربعاء الماضي والشاعر البصري كاظم الحجاج يواصل أعتكافه المقترن بالموت. هو يفعل ذلك رغم ما قيل عن اهتمام رسمي وقلق من أوساط المثقفين عليه. وأيضاً، رغم وعود حكومية بتوفير الطاقة لمنزله. الحجاج رد سريعاً على ذلك العرض:»لم اعتكف لنفسي، أفعلوا ذلك للعراقيين.. ان أستطعتم».
بدأ الحجاج اعتكافه بالقول:»لم انم منذ البارحة بسبب الكهرباء. لن اخرج من بيتي احتجاجاً الى أن اموت. لن أقابل أحداً، ولن أرد على التلفون. عذراً للجميع ووداعا».
في يومها كانت نشرة الأحوال الجوية تهدد العراقيين بـ 52 درجة مئوية، وأنباء عقود الاستثمار الوهمية وقعت كالصدمة عليهم، بينما منحت الحكومة في بغداد اجازة لموظفيها خوفاً من مواجهة محتدمة مع الشمس. كل ذلك ولم يكن تجهيز الطاقة في المنطقة التي يسكن فيها الحجاج قد تجاوز الساعة الواحدة.
ولحسن الحظ فان الحجاج لا يحتاج لان يعرف او يذاع صيته اثر اعتكافه هذا، فهو شاعر معروف من مواليد البصرة 1942 ينحدر من مدينة الهوير جنوب العراق.
أصدر مجموعته الشعرية الأولى (أخيرا تحدث شهريار) بغداد 1973، ومجموعته الشعرية الثانية (إيقاعات بصرية) بغداد 1987، ومجموعة شعرية ثالثة (غزالة الصبا) عمّان 1999. كما لديه دراسة أنثربولوجية في كتاب بعنوان (المرأة والجنس بين الأساطير والأديان) صدر في بيروت 2002، ثم مجموعة شعرية رابعة (مالا يشبه الأشياء) بغداد 2005. وكتب للمسرح أربع مسرحيات، عرضت منها ثلاثاً، وفازت اثنتان منها بجوائز.
منذ اعلان الاعتكاف، والحجاج صامت، وابنه يوسف ينقل للآخرين المتابعين لحالته اصراره على مواصلة الاعتكاف. الرجل توقف عن كتابة الشعر، وهجر أعمدته الصحافية في جرائد بغداد والبصرة، ولم يسمع صوته حتى الساعة.
في هذا الاعتكاف الحجاجي الفريد عراقياً، وفي لغة اشهاره واعلانه لفعله الناقم هذا، ايجاز عراقي لحالة اللاانسانية التي وسمت الفرد وعنونت أيامه العصيبة.
رغم ذلك تجادل المثقفون في جدوى اعتكاف الحجاج، لكن الاصوات اليائسة من تحقق شيء من هذا النمط من الفعاليات الثقافية قليلة جداً قياساً للمتندرين براديكالية وتصوف الشاعر البصري.
يقول الكاتب والروائي العراقي وارد بدر السالم ان اعتصام الشاعر البصري كاظم الحجاج داخل بيته حتى الموت، له ما يبرره على أكثر من مستوى، فالاعتصام والابتعاد القهري عن الآخرين، هو احتجاج سياسي بمقامه الأول من مثقف له حضور محلي طاغٍ على المستويين الشخصي والإبداعي.
ويجد ان الصراع السياسي الساخن الذي لا يراعي خدمات الناس أوجد ثغرة عظيمة بين الأصابع المخدوعة والنخبة السياسية التي تمردت على شعاراتها وأوصلت الشعب الى منتهى اليأس منها ومن برامجها.
السالم يجد في احتجاج الحجاج إشارة الى المبدعين العراقيين بأن يكون صوتهم مسموعاً هذه المرة، بل ومؤثراً، رافضاً ان يتقدم السياسي على الثقافي مهما بلغ مقام الأخير.
ويفصل الروائي وارد بدر السالم، وهو من مواليد البصرة أيضاً، اسباب اعتكاف الحجاج، بوصفه صوتاً عاماً، وقد انتفت خصوصيته الشعرية والإنسانية، ليدخل في بيوت المسؤولين في المحافظة صوتاً محتجاً، صادحاً، ينبيء من يهمه الأمر أن القضية خرجت عن حدودها الإنسانية كثيراً.
المثقفون العراقيون يجدون صعوبة في افتراض ان هناك قدرة على التواصل بشكل طبيعي مع الحياة ومع الكتابة والقراءة وشؤونها وسط حياة خالية من الشروط الطبيعية للعيش، مع ارتفاع درجات الحرارة العالية والفشل في تغطية موضوع الطاقة في العراق يشير الى فشل اكبر.
مرة أخرى، يجد العراقيون انفسهم بحاجة الى صدمات من طراز اعتكاف الحجاج ليتوفروا على قناعة بان احتجاج المثقف على فشل الحكومة في ملف الكهرباء ورمزية هذا الفشل بالنسبة الى الوضع العام، الكاتب احمد سعدواي يرى بان الامر «قد يكون اقراراً من المثقف بعدم قدرته على احداث أي تغيير، وقد يكون هذا نداءً اخيراً من أجل احداث تغيير ما».
المصدر:
بغداد – الدستور الثقافي – علي عبدالسادة
http://abyat.com/news/3062
سبت, 2011-08-13 11:36 | محرر الأخبار
لم يتخلص المثقفون العراقيون، طوال سنوات، من تهمة التخلف عن اليومي المعيش. وفي ظروف مشتعلة بالازمات، تعج بالاسئلة، التزم عديد منهم جانب الحياد، وسكنوا في خانة الأغتراب. فترسخت الفجوة بين ما تسمى بالنخبة وبين الجمهور الباحث عن اجابات من العيار الثقيل.
لم تنضج لدى اغلبية ساحقة في العراق رؤى واضحة حول فكرة الاحتجاج، حتى ان مفاهيم التغيير لا تحظى بجاذبية لدى الشارع. لكن لا يمكن انكار وجود محاولات عراقية لاحداث شيء يكسر الجمود.
فكرة البو عزيزي في تونس، ورغم تصوفها المفرط، أوقدت الحياة في ضمائر الملايين وثبتت التهمة بالمثقفين التونسيين بانهم متراجعون كثيراً عما يجري في بلادهم؛ لم يكن البائع المتجول من النخبة، لكنه تحول الى أيقونة بامكانها ان تصير مروية تونسية كبرى.
في العراق، وبذات التصوف، يسجل شاعر عراقي معروف تحولاً في طبيعة معالجة المثقف للشأن اليومي في هذه البلاد: كاظم الحجاج يعتكف بمنزله في البصرة حتى الموت، احتجاجاً على تردي خدمة الكهرباء.
بعض المثقفين العراقيين تفاعلوا سريعاً مع الحدث، وربما ينطوي ذلك على «فرح» بخلاص جلدهم من تهمة الصمت على ما يجري. جسامة التدهور في الحياة العراقية تؤرقهم على أساس ان كثيراً منهم يواجه صعوبة بالغة في الاحتجاج، وتختلف الاسباب ما بين بنيوية سياسية، وأخرى تعود الى اعتياد العراقيين على النأي بالنفس عما هو سياسي «مخيف».
منذ الأربعاء الماضي والشاعر البصري كاظم الحجاج يواصل أعتكافه المقترن بالموت. هو يفعل ذلك رغم ما قيل عن اهتمام رسمي وقلق من أوساط المثقفين عليه. وأيضاً، رغم وعود حكومية بتوفير الطاقة لمنزله. الحجاج رد سريعاً على ذلك العرض:»لم اعتكف لنفسي، أفعلوا ذلك للعراقيين.. ان أستطعتم».
بدأ الحجاج اعتكافه بالقول:»لم انم منذ البارحة بسبب الكهرباء. لن اخرج من بيتي احتجاجاً الى أن اموت. لن أقابل أحداً، ولن أرد على التلفون. عذراً للجميع ووداعا».
في يومها كانت نشرة الأحوال الجوية تهدد العراقيين بـ 52 درجة مئوية، وأنباء عقود الاستثمار الوهمية وقعت كالصدمة عليهم، بينما منحت الحكومة في بغداد اجازة لموظفيها خوفاً من مواجهة محتدمة مع الشمس. كل ذلك ولم يكن تجهيز الطاقة في المنطقة التي يسكن فيها الحجاج قد تجاوز الساعة الواحدة.
ولحسن الحظ فان الحجاج لا يحتاج لان يعرف او يذاع صيته اثر اعتكافه هذا، فهو شاعر معروف من مواليد البصرة 1942 ينحدر من مدينة الهوير جنوب العراق.
أصدر مجموعته الشعرية الأولى (أخيرا تحدث شهريار) بغداد 1973، ومجموعته الشعرية الثانية (إيقاعات بصرية) بغداد 1987، ومجموعة شعرية ثالثة (غزالة الصبا) عمّان 1999. كما لديه دراسة أنثربولوجية في كتاب بعنوان (المرأة والجنس بين الأساطير والأديان) صدر في بيروت 2002، ثم مجموعة شعرية رابعة (مالا يشبه الأشياء) بغداد 2005. وكتب للمسرح أربع مسرحيات، عرضت منها ثلاثاً، وفازت اثنتان منها بجوائز.
منذ اعلان الاعتكاف، والحجاج صامت، وابنه يوسف ينقل للآخرين المتابعين لحالته اصراره على مواصلة الاعتكاف. الرجل توقف عن كتابة الشعر، وهجر أعمدته الصحافية في جرائد بغداد والبصرة، ولم يسمع صوته حتى الساعة.
في هذا الاعتكاف الحجاجي الفريد عراقياً، وفي لغة اشهاره واعلانه لفعله الناقم هذا، ايجاز عراقي لحالة اللاانسانية التي وسمت الفرد وعنونت أيامه العصيبة.
رغم ذلك تجادل المثقفون في جدوى اعتكاف الحجاج، لكن الاصوات اليائسة من تحقق شيء من هذا النمط من الفعاليات الثقافية قليلة جداً قياساً للمتندرين براديكالية وتصوف الشاعر البصري.
يقول الكاتب والروائي العراقي وارد بدر السالم ان اعتصام الشاعر البصري كاظم الحجاج داخل بيته حتى الموت، له ما يبرره على أكثر من مستوى، فالاعتصام والابتعاد القهري عن الآخرين، هو احتجاج سياسي بمقامه الأول من مثقف له حضور محلي طاغٍ على المستويين الشخصي والإبداعي.
ويجد ان الصراع السياسي الساخن الذي لا يراعي خدمات الناس أوجد ثغرة عظيمة بين الأصابع المخدوعة والنخبة السياسية التي تمردت على شعاراتها وأوصلت الشعب الى منتهى اليأس منها ومن برامجها.
السالم يجد في احتجاج الحجاج إشارة الى المبدعين العراقيين بأن يكون صوتهم مسموعاً هذه المرة، بل ومؤثراً، رافضاً ان يتقدم السياسي على الثقافي مهما بلغ مقام الأخير.
ويفصل الروائي وارد بدر السالم، وهو من مواليد البصرة أيضاً، اسباب اعتكاف الحجاج، بوصفه صوتاً عاماً، وقد انتفت خصوصيته الشعرية والإنسانية، ليدخل في بيوت المسؤولين في المحافظة صوتاً محتجاً، صادحاً، ينبيء من يهمه الأمر أن القضية خرجت عن حدودها الإنسانية كثيراً.
المثقفون العراقيون يجدون صعوبة في افتراض ان هناك قدرة على التواصل بشكل طبيعي مع الحياة ومع الكتابة والقراءة وشؤونها وسط حياة خالية من الشروط الطبيعية للعيش، مع ارتفاع درجات الحرارة العالية والفشل في تغطية موضوع الطاقة في العراق يشير الى فشل اكبر.
مرة أخرى، يجد العراقيون انفسهم بحاجة الى صدمات من طراز اعتكاف الحجاج ليتوفروا على قناعة بان احتجاج المثقف على فشل الحكومة في ملف الكهرباء ورمزية هذا الفشل بالنسبة الى الوضع العام، الكاتب احمد سعدواي يرى بان الامر «قد يكون اقراراً من المثقف بعدم قدرته على احداث أي تغيير، وقد يكون هذا نداءً اخيراً من أجل احداث تغيير ما».
المصدر:
بغداد – الدستور الثقافي – علي عبدالسادة
http://abyat.com/news/3062