إسلام شمس الدين
ملاذ أفكاره قصيدته
وجدان عبد العزيز
الشعر مساحة افتراضية من الجمال يتحرك داخلها الإنسان الشاعر باثاً لواعجه وإرهاصاته، وضمن جمال الصدق بتركيبات لغوية تخترق منطق العلاقات المألوفة على طبق الانزياح إلى ما هو مغاير ليصدم الذائقة بدهشة التلقي وتوالد المعنى، حتى إذا استوى الشاعر وتحسس ذاته الواعية، انتمى إلى قصيدته وبدأ يداعبها بتشذيباته ورتوشاته. لذا نجد أغلب الأدباء يعتبرون قصائدهم بمثابة أولادهم؛ لطهارة المولد أولاً، ولأن القصيدة أخذت من الشاعر ومكثت في ذاته ثانياً..
وهذا ما أراه مرسوماً بدقة وقصيدة (في أحضان غانية ) للشاعر إسلام شمس الدين، تدلني عليه اللمسات الفنية على لوحة القصيدة، فإنه يدعوها؛ أي القصيدة؛ إلى أحضان إرهاصاته ، لتكون عوناً له في بثه المستمر لأفكاره..
(دَعِِْيني لَكِ…
دَعِِْيني اللَّيْلَةََ لكِ
سَأَخْلَعُ عَلَى أَعْتَابِكِ ذَاتِي
وأحُلُّ ضَفَائِرَ أَفْكَارِي
وأَزْرَارَ لُغَاتِي
سَأَنْزَعُ خُمُراً تُخْفِينِي
تَسْبِينِي
تَحْجُبُني عَنْ أقْرَبِ حَاجَاتي)
وكأني بالشاعر بعد جهدٍ جهيد في البحث لم يجد ملاذاً آمناً يستوعب أفكاره غير القصيدة، لأنها تفتح له أبواباً من المتعة والجمال، ناهيك عن امتصاص معاناته وآلامه، كأجمل غانية تحمل من الحنان واللمس الشفاف وهي تداعب روحه قبل نفسه. إذن هي بمثابة المرجع الروحي له، لذا فهو ينفعل أحياناً حينما يقترب منها أكثر..
(سَأَكْسرُ قَيْداً أَرْهَقَني
أَزْهَقَني
أَدْمَاني وأَثْقَلَ خُطُواتي)
ومن ثم يشرع بالإخبار:
( اللَّيْلَةََ أَدْخُلُ مِحْرابَكِ )
فهي مساحة مقدسة ليحط عنه من خلالها حمولاً وأوجاعاً بشفرة خاصة عكست أسلوبه المتميز في المناجاة، ثم يغتسل ثلاثاً، لتكون هنا صلاته ضمن حيزها هي.
الحقيقة التي لامناص منها أن إسلام شمس الدين جعل الشعر، كساقية الماء العذب يبل به ظمأه ويغتسل ثم يتبتل في بوحه ومناجاته، ولا شك أنها بركة طهور وبث مستمر من التجدد، ولأنه إنسان يتحمل من الحياة أدراناً خلال مشاويرها، وحينما يثقل حمله يأتي مسرعاً إلى القصيدة الملاذ، كالطفل المتعلق بقطعة حلوى، أو كالفتى المسافر:
(يُعِيدُهُ طَعْمُ القُبْلَةِ الأُولَى)
(والعَاشِقُ المَكْسُورُ شِرَاعُهُ فِي مُحِيطَاتِ الطُّهْر)
والفَارِسُ المَهْزُومُ..)
(يَغْزِلُ مِنْ الأَسِرَّةِ المُلَوَّنةِ رَايَاتٍ لِلنَّصْر)
إذن جعل قصائده أرضاً خصبة، وماءً عذباً، وأَسِرَّةً ملونة، هذا الشغف الروحي يتصير
(إلَى مُرُوجِ الحُلْم)
أي أنه في اللاوعي يحلق في سماوات الحلم، وفي الوعي يركب سفينة اللغة بفنية إخراجها من حالاتها المألوفة إلى حالاتها غير المألوفة، كمنطقة تجتذب حالات التلقي المفترضة، فهو يخاطبها قائلا :
(لا تَنْدَهِشِي)
فأنا متسكع، أجيد مراقصة الساقطات، وإني بارعٌ في مغازلة النساء، ويكرر:
(لا تَنْدَهِشِي..
فَأَنَا...
أَنْهَكَني التَحْلِيق..)
سأقول إن الشاعر حينما ينهكه الحلم ينزل إلى قاع الأشياء بلغة الحس، وحينما تنهكه الحياة بأدران رغباتها التي لا تنتهي يحلق صعوداً مع القصيدة في أصقاع الحلم...
وهكذا هو في قلق مستمر، مرة في الدرجات العليا من التحليق، وتارة في الدرك الأسفل من الهبوط في مراقصة الساقطات، تاركاً لنا لغتين؛ الأولى لغة الحلم والروح، والثانية لغة الجسد، وكأنه بحاجة ماسة لهذه اللغات، بل إنه لا يستغني عنها، يقول :
( فَفِي الغَرْبِ...
يَجْعَلُونَ يَوْماً لِتَعْريَةِ الأَجْسَاد
وفِي الشَّرَقِ يَنْتَهِكونَ جَهْراً
حُرْمَةَ الأَعْياد
أَمَّا أَنَا…
فَقَدْ قَرَّرَتُ اللَّيْلَةََ أَنْ أُجَرِّبَ تَعْريَةَ الأَفْكَار)
لأني مسكون بها وأقنع بالقليل من الاشياء الحسية..
( قليلٌ مِنْ العِطْرِ يَكْفِي)
ولأني (...أَكْرَهُ التَّزْيِيفَ والتَّمْثِيل)
(وأَنَا أَكْرَهُ النِّسَاءَ يَتَبَدَّلْنَّ كَالفُصُول)
وهنا اعتمد التكرار؛ أي تكرار عناصر البناء، ليهشم الزمنية ويرتكز على لذة الجمال ومتعة الاكتشاف، فهو؛ أي الشاعر؛ يتعامل مع القصيدة كحبيبة وامرأة ملونة كالسرير، بيد إنها بِركة يدخلها ليتطهر من أشياء الحياة الشائبة، ثم إن القصيدة تتصير حلماً في اللامرئي، وحبيبة يلتقيها أنى شاء ليلاً أو نهاراً في المرئي المحسوس، وبذلك خلق إشكالية ثنائية ضمن السياق واعتمد شفرته الخاصة كما أسلفنا. ولم ينس المتلقي من أشياء الجمال وهي تبث عبر ذبذبات الكلمة المغايرة لما هو مألوف، أي إنها تصدم الذائقة بالدهشة والانتباه من خلال الاستبدال الحادث بين القصيدة والحبيبة؛ بين الحلم والحقيقة، وبهذا وضع الشاعر أمامنا لوحة لم تكتمل بعد أن ضمّنها أسراراً لحد اللحظات الأخيرة لم يكشف إلا عن أجزاء غائرة في التلوين اللغوي..
(فالأَفْكَارُ الشَّفَّافة..
سَهْلةُ الكَسْر!)
ثم يعاود خطاب التكرار..
(لا تَخْجَلِي… لا تَخْجَلِي
فَنَحْنُ؛ يَا عَزِيزَتي؛ شَبِيهَان
.................... قَرِينَان)
بعد هذا يجسم القصيدة بخطوط مؤنسنة، كقوله:
(فَكِلاَنَا؛ يَا عَزِيزَتي؛
مَارَسَ العِهْرَ دُونَ مُقَابِل!)
ويبقى الشاعر إسلام شمس الدين داخل الدائرة اللازمنية المغلقة بمفاتيح الجمال بأن:
(اللَّيْلُ سُوَيْعَاتُهُ تَمُرُّ سِرَاعا
لَكِنَّ الصُّبْحَ لا يَجِيء !)
فهو يحلو له المكوث وسط البحث الدائب عن الجمال، وهي إشكالية العنونة مع المتن التي خلقت التماهي بين الظهور والاختفاء، حتى كأني أحسب القصيدة هي الحبيبة، والحبيبة هي القصيدة، مما تأكد لنا بأن هذا هو قلق الإنسان الشاعر داخل إسلام شمس الدين.
/ قصيدة (فِي أَحْضَانِ غَانِيَة)
الشاعر إسلام شمس الدين
ملاذ أفكاره قصيدته
وجدان عبد العزيز
الشعر مساحة افتراضية من الجمال يتحرك داخلها الإنسان الشاعر باثاً لواعجه وإرهاصاته، وضمن جمال الصدق بتركيبات لغوية تخترق منطق العلاقات المألوفة على طبق الانزياح إلى ما هو مغاير ليصدم الذائقة بدهشة التلقي وتوالد المعنى، حتى إذا استوى الشاعر وتحسس ذاته الواعية، انتمى إلى قصيدته وبدأ يداعبها بتشذيباته ورتوشاته. لذا نجد أغلب الأدباء يعتبرون قصائدهم بمثابة أولادهم؛ لطهارة المولد أولاً، ولأن القصيدة أخذت من الشاعر ومكثت في ذاته ثانياً..
وهذا ما أراه مرسوماً بدقة وقصيدة (في أحضان غانية ) للشاعر إسلام شمس الدين، تدلني عليه اللمسات الفنية على لوحة القصيدة، فإنه يدعوها؛ أي القصيدة؛ إلى أحضان إرهاصاته ، لتكون عوناً له في بثه المستمر لأفكاره..
(دَعِِْيني لَكِ…
دَعِِْيني اللَّيْلَةََ لكِ
سَأَخْلَعُ عَلَى أَعْتَابِكِ ذَاتِي
وأحُلُّ ضَفَائِرَ أَفْكَارِي
وأَزْرَارَ لُغَاتِي
سَأَنْزَعُ خُمُراً تُخْفِينِي
تَسْبِينِي
تَحْجُبُني عَنْ أقْرَبِ حَاجَاتي)
وكأني بالشاعر بعد جهدٍ جهيد في البحث لم يجد ملاذاً آمناً يستوعب أفكاره غير القصيدة، لأنها تفتح له أبواباً من المتعة والجمال، ناهيك عن امتصاص معاناته وآلامه، كأجمل غانية تحمل من الحنان واللمس الشفاف وهي تداعب روحه قبل نفسه. إذن هي بمثابة المرجع الروحي له، لذا فهو ينفعل أحياناً حينما يقترب منها أكثر..
(سَأَكْسرُ قَيْداً أَرْهَقَني
أَزْهَقَني
أَدْمَاني وأَثْقَلَ خُطُواتي)
ومن ثم يشرع بالإخبار:
( اللَّيْلَةََ أَدْخُلُ مِحْرابَكِ )
فهي مساحة مقدسة ليحط عنه من خلالها حمولاً وأوجاعاً بشفرة خاصة عكست أسلوبه المتميز في المناجاة، ثم يغتسل ثلاثاً، لتكون هنا صلاته ضمن حيزها هي.
الحقيقة التي لامناص منها أن إسلام شمس الدين جعل الشعر، كساقية الماء العذب يبل به ظمأه ويغتسل ثم يتبتل في بوحه ومناجاته، ولا شك أنها بركة طهور وبث مستمر من التجدد، ولأنه إنسان يتحمل من الحياة أدراناً خلال مشاويرها، وحينما يثقل حمله يأتي مسرعاً إلى القصيدة الملاذ، كالطفل المتعلق بقطعة حلوى، أو كالفتى المسافر:
(يُعِيدُهُ طَعْمُ القُبْلَةِ الأُولَى)
(والعَاشِقُ المَكْسُورُ شِرَاعُهُ فِي مُحِيطَاتِ الطُّهْر)
والفَارِسُ المَهْزُومُ..)
(يَغْزِلُ مِنْ الأَسِرَّةِ المُلَوَّنةِ رَايَاتٍ لِلنَّصْر)
إذن جعل قصائده أرضاً خصبة، وماءً عذباً، وأَسِرَّةً ملونة، هذا الشغف الروحي يتصير
(إلَى مُرُوجِ الحُلْم)
أي أنه في اللاوعي يحلق في سماوات الحلم، وفي الوعي يركب سفينة اللغة بفنية إخراجها من حالاتها المألوفة إلى حالاتها غير المألوفة، كمنطقة تجتذب حالات التلقي المفترضة، فهو يخاطبها قائلا :
(لا تَنْدَهِشِي)
فأنا متسكع، أجيد مراقصة الساقطات، وإني بارعٌ في مغازلة النساء، ويكرر:
(لا تَنْدَهِشِي..
فَأَنَا...
أَنْهَكَني التَحْلِيق..)
سأقول إن الشاعر حينما ينهكه الحلم ينزل إلى قاع الأشياء بلغة الحس، وحينما تنهكه الحياة بأدران رغباتها التي لا تنتهي يحلق صعوداً مع القصيدة في أصقاع الحلم...
وهكذا هو في قلق مستمر، مرة في الدرجات العليا من التحليق، وتارة في الدرك الأسفل من الهبوط في مراقصة الساقطات، تاركاً لنا لغتين؛ الأولى لغة الحلم والروح، والثانية لغة الجسد، وكأنه بحاجة ماسة لهذه اللغات، بل إنه لا يستغني عنها، يقول :
( فَفِي الغَرْبِ...
يَجْعَلُونَ يَوْماً لِتَعْريَةِ الأَجْسَاد
وفِي الشَّرَقِ يَنْتَهِكونَ جَهْراً
حُرْمَةَ الأَعْياد
أَمَّا أَنَا…
فَقَدْ قَرَّرَتُ اللَّيْلَةََ أَنْ أُجَرِّبَ تَعْريَةَ الأَفْكَار)
لأني مسكون بها وأقنع بالقليل من الاشياء الحسية..
( قليلٌ مِنْ العِطْرِ يَكْفِي)
ولأني (...أَكْرَهُ التَّزْيِيفَ والتَّمْثِيل)
(وأَنَا أَكْرَهُ النِّسَاءَ يَتَبَدَّلْنَّ كَالفُصُول)
وهنا اعتمد التكرار؛ أي تكرار عناصر البناء، ليهشم الزمنية ويرتكز على لذة الجمال ومتعة الاكتشاف، فهو؛ أي الشاعر؛ يتعامل مع القصيدة كحبيبة وامرأة ملونة كالسرير، بيد إنها بِركة يدخلها ليتطهر من أشياء الحياة الشائبة، ثم إن القصيدة تتصير حلماً في اللامرئي، وحبيبة يلتقيها أنى شاء ليلاً أو نهاراً في المرئي المحسوس، وبذلك خلق إشكالية ثنائية ضمن السياق واعتمد شفرته الخاصة كما أسلفنا. ولم ينس المتلقي من أشياء الجمال وهي تبث عبر ذبذبات الكلمة المغايرة لما هو مألوف، أي إنها تصدم الذائقة بالدهشة والانتباه من خلال الاستبدال الحادث بين القصيدة والحبيبة؛ بين الحلم والحقيقة، وبهذا وضع الشاعر أمامنا لوحة لم تكتمل بعد أن ضمّنها أسراراً لحد اللحظات الأخيرة لم يكشف إلا عن أجزاء غائرة في التلوين اللغوي..
(فالأَفْكَارُ الشَّفَّافة..
سَهْلةُ الكَسْر!)
ثم يعاود خطاب التكرار..
(لا تَخْجَلِي… لا تَخْجَلِي
فَنَحْنُ؛ يَا عَزِيزَتي؛ شَبِيهَان
.................... قَرِينَان)
بعد هذا يجسم القصيدة بخطوط مؤنسنة، كقوله:
(فَكِلاَنَا؛ يَا عَزِيزَتي؛
مَارَسَ العِهْرَ دُونَ مُقَابِل!)
ويبقى الشاعر إسلام شمس الدين داخل الدائرة اللازمنية المغلقة بمفاتيح الجمال بأن:
(اللَّيْلُ سُوَيْعَاتُهُ تَمُرُّ سِرَاعا
لَكِنَّ الصُّبْحَ لا يَجِيء !)
فهو يحلو له المكوث وسط البحث الدائب عن الجمال، وهي إشكالية العنونة مع المتن التي خلقت التماهي بين الظهور والاختفاء، حتى كأني أحسب القصيدة هي الحبيبة، والحبيبة هي القصيدة، مما تأكد لنا بأن هذا هو قلق الإنسان الشاعر داخل إسلام شمس الدين.
/ قصيدة (فِي أَحْضَانِ غَانِيَة)
الشاعر إسلام شمس الدين